«في ألمانيا أثبت صعود النازيين للسلطة في 1932 أن الديمقراطية السياسية وحدها تظل قوقعة خاوية لا تمنع المجتمع من السقوط في قبضة التوليتارية التي تنظم البلد كله في معسكر اعتقال حديدي»
- فرانز نويمان
حسب إحصاء ويكبيديا، أجريت انتخابات في 76 دولة حول العالم على مدار عام 2024، تراوحت بين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى انتخابات المجالس الإقليمية والبلدية وصولًا لانتخابات اختيار الزعامات الدينية، ومن الانتخابات الحرجة والمصيرية والضبابية في نتائجها حتى آخر لحظة وصولًا للصندوقراطية المشهدية التي لا تعني شيئًا حقيقيًا، وسط كل هذه التنويعات فأهم ما يُلاحظ هو صعود مستمر لتيارات اليمين المتطرف.
لم يعد صعود الحزب النازي الجديد في ألمانيا صادمًا ولم يعد يجد مكانًا في عناوين الأخبار، وترامب يستطيع وصف بورتو ريكو بجزيرة النفايات ويتوعد العرب بالجحيم ثم يفوز بالانتخابات وبفارق تاريخي عن منافسته الديمقراطية. فقد ضمنت الأزمات العالمية المتتابعة للأحزاب والجماعات الفاشية موقعًا في الخريطة الانتخابية حيث يتم التعامل معهم كمنافسين وزملاء بعد أن توقف التعامل معهم كأعداء خطرين على النظام ككل.
أحاول في هذا المقال النظر للحالة الفرنسية لتحليل آليات صعود هذه التيارات، ومدى القدرة على تحجيم الآثار المدمرة للأفكار الفاشية عبر قواعد المعركة الانتخابية بصورتها الليبرالية الحديثة.
لعل الانتخابات الفرنسية هي التعبير الأبرز عن أزمة إدماج اليمين المتطرف في الحياة السياسية الغربية، كانت المعركة مع اليمين المتطرف في فرنسا معركة مؤجلة منذ سنوات زادت أهميتها مع الانتصار المفزع الذي حققه حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بقيادة ماريان لوبان في انتخابات البرلمان الأوروبي في 9 يونيو 2024، ومع خروج الأحزاب التقليدية من المشهد دارت رحى المعركة الانتخابية بين ثلاثة أطراف رئيسية:
حزب الرئيس ماكرون الذي فقد بالفعل مساحة واسعة من شعبيته بعد صعود سريع نشهد اليوم سقوطه المدوي، فشل الرئيس ماكرون في إرضاء أي من الأطراف السياسية، وأدار أزمات الاقتصاد بسياسات تقشفية عنيفة فتحت الباب لتظاهرات كبيرة بلغت ذروتها مع تعديله لقانون التقاعد برفع سنِّه إلى 65 عامًا، وهو ما فجَّر موجة من المظاهرات والقمع البوليسي والاعتقالات التعسفية، ما دفع بشعبية الرئيس ماكرون إلى أدنى مستويات يصلها رئيس منذ عقود.
الطرف الثاني في هذه المعركة هو الجبهة الوطنية الصاعد بقوة على خلفية موقفه من المهاجرين وكذلك مواقفه الاقتصادية المرتبطة بمعارضة الاتحاد الأوروبي وسياساته البيئية، وهو ما يستجلب رضا قطاعات واسعة من ملاك المصانع وكبار المزارعين، بالإضافة لدعم مالي ضخم من فينسنت بولورو الملياردير إمبراطور الإعلام، وهو ما يشير لحقيقة الانحيازات الاقتصادية للجبهة الوطنية رغم الخطاب المصطنع من التضامن مع الفقراء والطبقات الوسطى إلى دون الوسطى.
وثالث الأطراف هو التحالف اليساري «الجبهة الشعبية الجديدة» الذي ظهر بأعجوبة بعد صعود اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي وبعد جهود مضنية من قائد حزب فرنسا الأبية جون لوك ميلونشون، كان هذا التحالف اليساري الذي ضم عدة أحزاب وحركات يسارية صغيرة ومتوسطة الحجم مفاجئًا للجميع، أعلن التحالف برنامجه الانتخابي القائم على النقاط التالية:
ورغم الصدمة الانتخابية التي حققها هذا التحالف، فنتيجة الدورة الاولى من الانتخابات البرلمانية كانت صادمة للجميع، حقق اليمين المتطرف أكبر نتائجه في تاريخ فرنسا وتجاوز 33٪ من إجمالي الأصوات، مقابل 28٪ و20٪ للجبهة اليسارية وحزب الرئيس ماكرون على التوالي، وضمنت ماريان لوبان تشكيل الحكومة لدرجة أنها بدأت بالفعل مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، ومع ذلك فلم تحسم سوى 39 مقعدًا من إجمالي مقاعد البرلمان الـ577، وهو ما ترك باب الاحتمالات مفتوحًا للجولة الثانية.
جرس إنذار مبكر للجبهة الوطنية وقائدها الشاب الجديد جوردان بارديلا، الذي دعا الرئيس ماكرون للتحالف في الجولة الثانية ومشاركة السلطة مع حماية قيم الجمهورية الفرنسية ضد الجمهورية الإسلامية التي يقدمها اليساري المتطرف ميلونشون.
كان هذا الخطاب رغم سخافته مؤثرًا بشدة على مسار الانتخابات، حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن كثيرًا من ناخبي اليمين التقليدي ويمين الوسط لا ينظرون لليمين المتطرف باعتباره تهديدًا للديمقراطية كما مضى وإنما جزءًا أصيلًا ومعبرًا عن قيم الديمقراطية الفرنسية، بما في ذلك إريك سيوتي قائد حزب الجمهورية الذي كان يعد أحد الحزبين الكبار الذين تناوبا الحكم في فرنسا منذ عقود والذي دعم لوبان في الجولة الثانية بشكل صادم لحزبه، خاصة مع توتر العلاقات التاريخية بين حزب الجمهورية ولوبان الأب مؤسس الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة.
أما عن موقف حزب الرئيس ماكرون من هذا الاستقطاب، فقد كرر لعبته الأزلية بالموازنات والوسطية في وجه التطرف من اليمين واليسار سويًا، فقد ترك ماكرون الاحتمالات مفتوحة على التحالف مع أي من الأطراف وفقًا لنتائج الجولة الثالثة، ومع ذلك، فكانت هناك انسحابات عديدة للكثير من مرشحيه ومرشحين مستقلين، فقد انسحب 210 من أصل 310 مرشحًا في جولة الإعادة بهدف عرقلة وصول اليمين المتطرف للسلطة، وهو ما كان يبدو متأخرًا بعد اقتراب اليمين المتطرف بالفعل من السلطة في الجولة الأولى.
الجولة الثانية كانت مخيبة لآمال الجميع ومحفزة في آن واحد، فمع حصول التيارات الثلاثة الكبيرة على عدد مقاعد متقارب: 180 للتحالف اليساري، 159 لتحالف الرئيس ماكرون، و142 لليمين المتطرف، وعجز أي منهم عن تشكيل أغلبية برلمانية مستقلة، نجح التحالف اليساري في تحقيق هدفه التأسيسي ومنع وصول اليمين المتطرف للسلطة هذه المرة على الأقل، وإن كان بالطبع فشل في تشكيل الحكومة أو الدفع في اتجاه تحقيق أي من المبادئ الـ13 التي تأسس عليها، ووصفت لوبان هذه النتائج بأنها «انتصار مؤجل» وجددت دعوتها للرئيس ماكرون للتحالف في تشكيل الحكومة، وهو ما لم يستجب له الرئيس ماكرون الذي قرر تشكيل الحكومة دون التحالف مع أي من الكتلتين على اليمين واليسار.
بالمجمل، يمكن تحليل المواقف السياسية للفرنسيين في هذه الانتخابات لنخرج بعدة نتائج قد لا تكون دقيقة لكنها حتمًا مثيرة:
ختامًا، يبدو من خلال نتائج الانتخابات الفرنسية أن المعركة مع اليمين المتطرف العنصري لن تنجح ما دامت تقام على أسس الأحلام السياسية الديمقراطية الصناديقية التي لا تتحول لديمقراطية حقيقية ترتبط برجل الشارع العادي وتمثل أفكاره وأحلامه بشكل مباشر، وطالما فقد اليسار بوصلته نحو سياسات الهوية والتنظير الفارغ وانفصل عن قواعده الجماهيرية التاريخية، فسيستمر صعود اليمين الفاشي في أوروبا، وهو ما ينذر بمستقبل حالك للعالم كله؛ ما لم تدرك النخب السياسية في أوروبا حقيقة المعركة السياسية في بلادهم، وأن الأمر يتجاوز الاستقطاب السياسي للتقدمية أو البربرية كما وصفتها روزا لوكسمبورج.
# سياسة # اليمين المتطرف # فرنسا # منحة أبو الغيط للكتاب 2025